في استذكار الراحل أسعد محمد علي.. حـكمة الموســيقي وشفافيته

المقاله تحت باب  في الموسيقى والغناء
في 
12/09/2009 06:00 AM
GMT



يبدو الحديث عن الراحل اسعد محمد علي، حديثاً منتمياً بكامله لايقاع الالم، فهو رحل من دون ان يتم رحلته التي انتظرها طويلاً في المانيا، اذ كان يأملها ممراً لمشاريع ثقافية لاسيما وانه حصل على "تأشيرة" تعتبر شبه مستحيلة لعراقي في زمن الحصار! وموته بعيداً عن وطنه اعاد التذكير بمحنة العراقي في بحثه اليائس عن مكان تحترم فيه انسانيته، كما ان رحيله كشف خسارة لا تعوض، فأسعد محمد علي لم يكتف بأن يكون موسيقياً ماهراً لجهة الخبرات الحرفية، وانما انفتح على فضاء الموسيقى بوصفه فضاء معرفياً وثقافياً،

مثلما لم يكن مثقفاً عادياً نمطياً يفهم الثقافة في النتاج المكتوب وحسب، ناهيك عن شفافيته ووفائه وتواضعه الجم وحرصه على ادامة العلاقة باجيال الثقافة العراقية المتتابعة. عني الراحل  محمد علي بموضوعة "الادب والموسيقى" لا في كتابه الشهير الذي حمل العنوان ذاته وطبع في جزأين وحسب، بل وحتى في تمثله النقدي للعروض والنتاجات والظواهر الموسيقية، كما امتدت موضوعته الى عمليه الروائيين "الضفة الثالثة" و"الصوت والدوي"، ومثلما راح يقرأ النتاج الادبي وفق قراءات نقدية تستقي منهجها من بناء الاشكال الموسيقية واضاءة المنظورات المشتركة بين ما هو ادبي وما هو موسيقي.
في اواسط ثمانينيات القرن الماضي كنت اتابع ما يكتب في صحيفة "الجمهورية" بشغف، حتى كانت فرصة اللقاء به في مبنى عتيق اتخذته الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" مقراً في منطقة )القصر الابيض( وسط بغداد حين كان مديراً للفرقة التي تعتبر من اعرق مثيلاتها في المنطقة وكانت في تأسيسهاعام 1948 علامة موسيقية رفيعة، ولطالما اصبحت مثار تندر الاميين من وزراء الثقافة والاعلام وبالذات بعد مجئ (البعث) الى السلطة في العراق والذين كانوا يرون فيها "وجاهة" فائضة عن الحاجة، حيث لا مديح للقائد في نتاجها ولا ثناء على عبقريته، وسألت الراحل أيعقل ان يكون هذا المبنى الرطب والمعتم الارجاء والمهدم العتبات والمجاور لـ(الامن العامة) مقراً لعلامة رفيعة في الثقافة العراقية؟ وكعادته في التهرب بلباقة من اسئلة لا اجوبة لها كسؤالي، راح يحدثني عن المعنى الذي تختصره يد المايسترو وهي تحمل (عصا القيادة) المتناهية الدقة وحركتها التي تفصل ما بين النغم الرفيع والسكون الاصم.
تلك الحكاية اوجزها (بوستر) لاحدى حفلات الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية منتصف السبعينيات يوم عادت لنشاطها بعد تدخل جمهرة عازفيها لدى وزير الثقافة حينها شفيق الكمالي الذي سمح لهم باعادة الحياة للفرقة التي كانت ستعزف حين زرت محمد علي في مقرها عملاً رشيقاً لموتسارت هو "اغنيات ليل صيفية" وراح الراحل يحاورني في مقال كتبته عن موتسارت عبر صورته المثيرة للجدل والتي اظهرها فيلم "اماديوس" للمخرج ميلوش فورمان، مثنياً على قراءتي التي اظهرت الجانب الاجتماعي لعصر موتسارت من خلال موسيقاه.
وعبر غير حفل للفرقة السيمفونية الوطنية كان فيها محمد علي عازفاً لآلته الاثيرة (الفيولا) كنت حاورته عن معنى المعية العازف وكيفية تمييز براعته وهو يعزف عملاً سبقه اليه عازفون كثر، فأكد ان نصف البراعة يأتي من فهم العمل ومحبة العازف له فيما تتكفل الموهبة بالنصف الاخر.
وفي حين اسعدني تقديمه لكتابي "فصول في الموسيقى المعاصرة" (كان يفترض ان يصدر ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة العام 1991 لكن توقف السلسلة بسبب سياسة التقشف اطلق رصاصة الرحمة على الكتاب)، لكنه لم يجاملني حين ابدى شكوكه من مدى اصالة النماذج التي عنيت بها وتتصل بما يعرف الان بـ"موسيقى العصر الحديث" او New Age Music معتبراً ان هذا الشكل الموسيقي يعتمد على ابهار التقنيات اكثر من اعتماده على اللمسة الانسانية، ولكن دون ان يبخسني حق الاجتهاد في عرض شكل موسيقي بدا وكأنه استجابة لمفاهيم عصرنا الراهن.
ولانه لم يكن موسيقياً منعزلاً عن الحياة، فقد تحسس موجة الرداءة في بواكيرها، واندفع الى تأسيس ثوابت في التربية الموسيقية تحمي الاجيال الجديدة من فخاخ التسطيح الذوقي الغنائي وان جاءت تحت تسمية الحداثة، فكان كتابه لافتاً وان جاء بحجم صغير (صدر عن سلسلة "الموسوعة الصغيرة" في بغداد) والذي تناول اسس التربية الموسيقية عارضاً ملمحاً محلياً علمياً تأثر فيه بأسس ما كان قد خبره في هنغاريا اثناء اقامته ودراسته فيها.
واضافة الى عمله وادارته "الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية" فلأسعد محمد علي فضيلة تكريس شكل من اشكال الموسيقى الرفيعة "موسيقى الصالة" عبر تأسيس "فرقة سومر لموسيقى الصالة" التي ظلت ملازمة لوجوده ونقلها معه الى عمّان وكانت حاضرة في المواسم الثقافة المتعاقبة لـ"دارة الفنون" التابعة لمؤسسة عبد الحميد شومان جاعلاً منها ورشة عمل لموسيقيين عراقيين من داخل الوطن وخارجه كان ينتظم في عروضها العازفون اصحاب الخبرة مثلما ينتظم العازفون الشباب.
عمّان تلقى عازفون شبان ومحبون للموسيقى في "المعهد الوطني للموسيقى" و "مركز فريدي للموسيقى" دروساً من نبع اسعد محمد علي في المهارات وفي تذوق النغم الرفيع وفي محبة الادب وعلاماته المبدعة، وكان ليس غريباً ان يموت وهو يعطي درساً لاحد طلابه في عمّان.
وارسى الراحل في عمّان دعائم اتصال قوية مع المشهد الثقافي الاردني، ولكن مع حرصه على تثبيت ملامح ناضجة لادب العراق وفنه، فكان ذلك مبعث احترام المثقفين الاردنيين له وتقديرهم.
وفي حين كان جثمان الراحل يسجى في ثنايا تراب وطنه الذي احب لم يتذكره احد غير الناقد الموسيقي عادل الهاشمي في عموده الاسبوعي في "الجمهورية" والذي كان جريئاً في الاشادة بمآثر الراحل وفي نقده "الاحتفالية" التي اقامتها "دائرة الفنون الموسيقية"، فكتب: "لم يكن الحضور على المستوى الذي كنا نتمنى لمبدع مثل اسعد محمد علي، فان مثل هذه الظاهرة غير المفهومة نكسة مؤلمة من انعدام الاعلان عنها ومن غياب التخطيط لها".